فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال النابغة:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلاَنًا أسائلها ** عَيَّتْ جوابًا وما بالرّبعِ من أحَدِ

إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا ما أبَيِّنُها ** والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ

فلما لم تكن الأواريّ من جنس أحدٍ حقيقة لم تدخل في لفظه.
ومثله قول الآخر:
أمسى سُقَامٌ خَلاءً لا أنيسَ به ** إلاَّ السباعَ ومر الريح بالغَرَفِ

وقال آخر:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ** إلاَّ اليعافيرُ وإلا العيس

وقال آخر:
وبعضُ الرجال نخلةٌ لا جَنَى لها ** ولا ظلَّ إلاَّ أن تُعَدّ من النخل

أنشده سيبويه؛ ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير:
مِن البِيضِ لم تَظْعن بعيدًا ولم تطأ ** على الأرض إلاَّ ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

كأنه قال: لم تطأ على الأرض إلاَّ أن تطأ ذيل البُرْد.
ونزلت الآية بسبب قَتلِ عيّاشِ بن أبي ربيعة الحارثَ بن يزيد بن أبي أنيسة العامريّ لحَنّةٍ كانت بينهما، فلما هاجر الحارث مُسْلِمًا لَقِيَه عيّاشٌ فقتله ولم يشعر بإسلامه؛ فلما أخبِر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلتُه فنزلت الآية.
وقيل: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا ولا يقتصّ منه إلاَّ أن يكون خطأ؛ فلا يقتص منه، ولكن فيه كذا وكذا.
ووجه آخر وهو أن يقدّر كان بمعنى استقرّ ووُجد؛ كأنه قال: وما وُجد وما تقرّر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاَّ خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانًا؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع.
وتتضمن الآية على هذا إعظامَ العَمْد وبشاعة شأنه؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلاَّ ناسيًا؟ إعظامًا للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبَتّة.
وقيل: المعنى ولا خطأ.
قال النحاس: ولا يجوز أن تكون {إِلاَ} بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يُحْظَر.
ولا يُفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خصّ المؤمن بالذكر تأكيدًا لحنانه وأخوّته وشفقته وعقيدته.
وقرأ الأعمش {خطاء} ممدودًا في المواضع الثلاث.
ووجوه الخطأ كثيرة لا تُحصى يربطها عدم القصد؛ مثل أن يَرْمي صفوف المشركين فيصيبَ مسلمًا.
أو يسعى بين يديه مَن يستحق القتل مِن زان أو محارب أو مرتدّ فطلبه ليقتله فلقِي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ.
أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانًا أو ما جرى مجراه؛ وهذا مما لا خلاف فيه.
والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمّد؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء.
ويُقال لمن أراد شيئًا ففعل غيره: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ.
قال ابن المنذر: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} إلى قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} فحَكَم الله جل ثناؤه في المؤمن يَقْتُل خطأ بالدّية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به. اهـ.

.قال الفخر:

في انتصاب قوله: {خطأ} وجوه:
الأول: أنه مفعوله له، والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل، إلا لكونه خطأ.
الثاني: أنه حال، والتقدير: لا يقتله ألبتة إلا حال كونه خطأ.
الثالث: أنه صفة للمصدر. والتقدير: إلا قتلا خطأ. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الراغب: إنْ قيل: أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى يقال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز؟ إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك، وما كان لك أن تفعل كذا، وما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما لا يقالان بمعنى.
وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه، أي: ما كان المؤمن ليقتل مؤمنًا إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا، لكن يقع ذلك منه خطأ.
وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن المؤمن إلا خطأ.
وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمن بمتروك أن يقتضي له، إلا أن يكون قتله خطأ.
وقال الماتريدي: الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقًا، واستثنى الخطأ، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع، وفي كونه حرامًا كلام انتهى.
وملخص ما بني على هذا أنه إن كان نفيًا وأريد به معنى النهي كان استثناء منقطعًا إذ لا يجوز أن يكون متصلًا لأنه يصير المعنى: إلا خطأ فله قتله.
وإن كان نفيًا أريد به التحريم، فيكون استثناء متصلًا إذ يصير المعنى: إلا خطأ بأن عرفه كافرًا فقتله، وكشف الغيب أنه كان مؤمنًا، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفرة، وإن كان فيهم من أسلم إذا لم يعلم بهم، فيكون الإستثناء من الحظر إباحة.
وقال بعض أهل العلم: المعنى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا عمدًا ولا خطأ فيكون إلا بمعنى: ولا، وأنكر الفراء هذا القول، وقال: مثل هذا لا يجوز، إلا إذا تقدم استثناء آخر، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء، كما في قول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة ** دار الخليفة إلا دار مروانا

وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال: ليس له أن يقتله عمدًا ولا خطأ، ولكنه أقام إلا مقام الواو، وهو كقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

والذي يظهر أن قوله: {إلا خطأ}، استثناء منقطع، وهو قول الجمهور منهم: أبان بن تغلب.
والمعنى: لكن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ اهـ. بتصرف يسير.
قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}

.قال الألوسي:

{وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه (أي فواجبة) تحرير رقبة والتحرير الإعتاق؛ وأصل معناه جعله حرًا أي كريمًا لأنه يقال لكل مكرم حر، ومنه حر الوجه للخد وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضًا، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرًا عن الكل بالجزء، قال الراغب: إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسًا وكذا ظهرًا {مُؤْمِنَةٍ} محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة، وإلى ذلك ذهب عطاء، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزئ في كفارة القتل الطفل ولا الكافر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي: (فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي)، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله: القتل على ثلاثة أقسام: عمد، وخطأ، وشبه عمد.
أما العمد: فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن، وهذا قول الشافعي.
وأما الخطأ فضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما.
والثاني: أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار، والأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد.
أما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه.
قال الشافعي رحمه الله: هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. اهـ.
قال الفخر:
قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض، بل هو خطأ وشبه عمد، فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة، ولا يجب فيه القصاص.
وقال الشافعي رحمه الله: إنه عمد محض يجب فيه القصاص.
أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه، ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل، بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} [القصص: 19] وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز، فثبت أن القبطي سماه قتلا، وأيضًا إن موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال: {رَبّى إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز، وأيضا إن الله تعالى سماه قتلا حيث قال: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُونًا} [طه: 40] فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل» فسماه قتلا، فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل، وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فإن من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا، أو صلبه أو غرقه، أو خنقه ثم قال: ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا، وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم، فثبت أنه قتل عمد عدوان، فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول.
أما النص: فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} [الإسراء: 33] {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وأما المعقول: فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} [البقرة: 179] وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار، والإهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى، ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الإهدار، إنما التفاوت حاصل في آلة الإهدار، والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر، والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل» وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا.
والجواب: أن قوله: «قتيل الخطأ» يدل على أنه لابد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه، وقد بينا أن من خنق إنسانًا أو ضرب رأسه بحجر الرحا، ثم قال: ما كنت أقصد قتله، فإن كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال، فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

ذهب داود إلى القِصَاص بين الحرّ والعبد في النّفْس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء؛ تمسُّكًا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} إلى قوله تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقوله عليه السَّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فلم يفرق بين حرّ وعبد؛ وهو قول ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلاَّ في النفس فيُقتل الحرّ بالعبد، كما يقتل العبد بالحرّ، ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء.
وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أُريد به الأحرار دون العبيد؛ فكذلك قوله عليه السَّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» أُريد به الأحرار خاصّة.
والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنّفسُ أحرى بذلك؛ وقد مضى هذا في البقرة. اهـ.